بحث

دروس التاريخ ودعوة العقل للحكمة والإنصاف

اشجان عفاش

 

في خضمِّ العواصف التي تُهدد وحدة الأمة، يبرز التعميم الجائر كسيفٍ مُسلطٍ على نسيجنا الاجتماعي، يُمزّق أواصر اللحمة ويُغذي نار الفرقة. كثيرًا ما نرى أحكامًا تُطلق في غمرة التسرع، دون تدبرٍ أو تمعن، فتُلقي بظلال الإثم على جماعاتٍ بأسرها بذنب فردٍ أو فئة. هذا النهج، سواء نَبع من جهلٍ أعمى، أو عاطفةٍ جارفة، أو نيةٍ خبيثة تُريد إشعال فتيل الفتنة، ليس سوى شركٍ يُنصبه أعداء الأمة ليستغلوا أخطاءنا، فيُضعفوا عزيمتنا ويُشتتوا صفوفنا. إن الجهل وإساءة الفهم، حين يُقوِّضهما غياب البصيرة، يُصبحان عدوًا أشد خطورةً من الأعداء الخارجيين، إذ يُهيئان الأرضية لمن يتربصون بنا ليُحيكوا مكائدهم على أنقاض انقساماتنا.

التاريخ، ذلك الكتاب الخالد، يُقدم لنا دروسًا مضيئةً تُنير دروب الحكمة. لننظر إلى بني أمية وبني هاشم، تلك الأسرتان العظيمتان اللتان شهدتا تنوعًا إنسانيًا يُجسد حقيقة الاختلاف البشري. فهل يُعقل أن نُساوي بين يزيد بن معاوية، الذي ارتبط اسمه بالأخطاء والانحرافات، وعمر بن عبدالعزيز، ذلك الخليفة الزاهد الذي أحيا العدل حتى صار مضرب المثل في الصلاح والإصلاح؟ كلاهما من بني أمية، لكن أفعالهما تنتمي إلى عالمين متباعدين. وهل يُمكن أن نضع العباس بن عبدالمطلب، رمز التقوى والإيمان، في كفةٍ واحدةٍ مع أبي لهب، الذي عُرف بعدائه المرير لدعوة الحق، رغم اشتراكهما في النسب الهاشمي؟ هذه الصور التاريخية تُعلمنا أن الأفراد لا يُقاسون بانتسابهم، بل بأفعالهم وأخلاقهم. فلا بنو أمية كلهم مجرمون، ولا بنو هاشم كلهم قديسون. في كليهما من حمل مشاعل النور ومن سلك دروب الظلام.

إن التعميم الجائر ليس مجرد زلة عابرة، بل هو فخٌ يُهدد كيان الأمة. أعداؤنا، الذين يتربصون بنا كالذئاب في الظل، يرصدون هفواتنا ويُضخمون أخطاءنا ليُحولوها إلى سلاحٍ يُمزق وحدتنا. يعلمون أن إساءة الفهم، حين تُغذيها دوافع عمياء، تُصبح أرضًا خصبةً لزرع بذور الفرقة. كم من مرة رأينا من يُثير الفتنة عن قصد، فيُلقي بالتهم جزافًا ليُشعل نار الخلاف؟ وكم من مرة شاهدنا من يركب موجة التعميم بجهل، أو يردد كلامًا كأنه "يغني على ليلاه" دون أن يدرك حقيقة ما يقول؟ إن هذه التصرفات، سواء كانت نابعةً من قلة وعي أو انسياقٍ أعمى، تُعين الأعداء على تحقيق مآربهم، وتُوهن الأمة من داخلها.

الحل يكمن في تبني نهج الحكمة والإنصاف. علينا أن نُعيد النظر في أحكامنا، وأن نُدقق بعين العقل والعدل قبل أن نُطلق الاتهامات. كل إنسانٍ مسؤول عن أفعاله، ولا يجوز أن نحمل الكل وزر البعض. في كل بيت، كما في كل أمة، تجد الصالح والطالح، الحالي والشوعة. فلماذا نُغرق أنفسنا في إساءة الفهم ونحن نمتلك نور العقل والبصيرة؟ إن التاريخ يُذكرنا بأن العدل هو أساس استقرار الأمم. عمر بن عبدالعزيز لم يُحاسب الناس بأنسابهم، بل بأعمالهم، فأحيا أمةً كادت أن تُمزقها الفتن. والعباس لم يكن عظيمًا لأنه هاشمي فحسب، بل لأنه اختار طريق التقوى والصلاح. فلنتعلم من هذه النماذج، ولنحذر أن نكون أداةً في يد من يتربصون بالأمة.

إن دعوة الحكمة هي دعوةٌ لكل قلبٍ وعقلٍ في هذه الأمة: توقفوا قبل أن تحكموا، وتدبروا الحقائق بعين البصيرة. لا تدعوا الجهل أو العاطفة تُعميكم عن الحق. كونوا حراسًا على وحدة الأمة، ولا تُعينوا أعداءها بالانسياق وراء التعميمات الجائرة. إن العدل ليس شعارًا يُرفع، بل ممارسةٌ يومية تبدأ من وعينا وتنتهي بحكمنا على الآخرين. فلنجعل البصيرة درعًا يحمينا من الجهل، والحكمة سيفًا يقطع أواصر الفتنة، ولنحفظ أمتنا من أعدائها الداخليين والخارجيين.

إن التاريخ ليس مجرد سجلٍ للأحداث، بل هو مرآةٌ تعكس أخطاءنا ونجاحاتنا. فلننظر في هذه المرآة بعين الإنصاف، ولنتعلم منها أن الأمم لا تُبنى بالتعميمات، بل بالحكمة والعدل. لنكن أوفياء لتراثنا، حاملين مشاعل الحق، حذرين من أعداء يتربصون بنا، متسلحين بالبصيرة التي تُضيء دروب الوحدة والتقدم.

آخر الأخبار