جسور من الثقة ومساحات للإبداع المشترك :
يُطلّ عام 2025 بحدثين بالغي الأهمية: الذكرى الخامسة والثلاثون لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والمملكة العربية السعودية، وإعلانه أول عام ثقافي صيني-سعودي على الإطلاق.
من القاعدة الراسخة للثقة السياسية إلى رحابة الشراكة الاقتصادية، ومن حيوية التواصل الحضاري إلى حرارة تفاعل الشباب، تشهد العلاقات الثنائية عصراً ذهبياً يخطف الأبصار.
وانطلاقاً من خبرتي الممتدة في حقل التبادل الثقافي الصيني-العربي، يسعدني في هذه المناسبة التاريخية أن أروي لكم قصة الصداقة العميقة بين البلدين، كما عكستها رؤية الشباب وحيوية التعاون المستدام.
أولاً: 35 عاماً: من القمة السياسية إلى التمازج الشعبي :
في 21 يوليو 1990، أقامت الصين والمملكة العربية السعودية علاقاتهما الدبلوماسية رسميًا، لتبدأ صفحة مشرقة في سجل التبادلات الثنائية. وشهدت هذه العلاقة محطات تاريخية بارزة:
عام 2006: تبادل القمة بين الرئيس هو جين تاو والملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-
عام 2016: زيارة الرئيس شي جين بينغ التاريخية للمملكة، والتي أُعلن خلالها عن إطلاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين.
نهاية 2022: عودة الرئيس شي إلى الرياض للمشاركة في قمتي "الصين-العرب" و"الصين-الخليج"، وتوقيع اتفاقية الشراكة الشاملة التي عمّقت أواصر التعاون.
عام :2024 زيارة رئيس الوزراء لي تشيانغ، حيث ترأس مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان اجتماع اللجنة العليا المشتركة في دورتها الرابعة.
هذه المحطات لم تكن مجرد أحداث دبلوماسية، بل تحولات استراتيجية انتقلت بالعلاقات من مستوى التنسيق الحكومي إلى مستوى التكامل الشعبي والاقتصادي.
ثانيًا: شراكة مصيري: تعاون يتجاوز الطاقة نحو تكامل استراتيجي شمولي :
باعتبارها أكبر شريك تجاري للصين في الشرق الأوسط، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والسعودية في عام 2024 ما يقرب من 107.53 مليار دولار أمريكي. ولا تزال المملكة أكبر مصدر للنفط الخام إلى الصين.
حيث صدّرت حوالي 78.64 مليون طن في نفس العام. لكن الشراكة تجاوزت بكثير حدود التعاون النفطي التقليدي، لتدخل آفاقاً أوسع وأكثر تنوعاً.
في مجال البنية التحتية، تشارك الشركات الصينية في مشاريع كبرى مثل قطار مكة الخفيف ومدينة جازان الاقتصادية و مشروع نيوم.
أما في القطاع المالي، فقد أبرم الجانبان اتفاقيات حول القروض بالرنمينبي ومبادلات العملات، وتم إصدار أول سندات سيادية صينية في الشرق الأوسط. كما ضخت شركات صينية في مجال الاتصالات والذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء استثمارات كبيرة في المملكة.
في 7 يوليو 2025، انطلقت في الرياض بطولة كأس العالم للألعاب الإلكترونية (EWC2025)، وهي الأكبر عالميًا في هذا المجال، بمشاركة غير مسبوقة من الصين تضم 22 ناديًا و23 لعبة، مما جعل الصين من أبرز القوى المشاركة، وعكس الزخم المتزايد لتعاون الشباب في المجال الرقمي.
شهد التعاون الصيني السعودي في مجال التكنولوجيا الزراعية تقدمًا نوعيًا. حيث أسفر
منتدى الزراعة الذي عُقد في مايو، عن إبرام أكثر من 70 اتفاقية تعاون بقيمة 4 مليارات دولار، شملت التجارة الإلكترونية
تصدير التمور، والزراعة الذكية، بمشاركة شركات مثل علي بابا، هواوي، وميتوان. وقد اطّلع الوفد السعودي خلال المنتدى على أبرز الإنجازات الصينية في مجال تربية المحاصيل الفضائية.
كما يتعمق التعاون الصيني-السعودي في مشاريع الطاقة المتجددة، خاصة في مجالات الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح. حيث أصبحت حوكمة المناخ أحد الركائز الاستراتيجية للشراكة بين البلدين.
وفي الجانب الثقافي، يشهد التعاون الأثري تطورا ملحوظا، منذ توقيع اتفاقية التنقيب المشترك في موقع السرين الأثري. حيث قامت بعثة مشتركة صينية سعودية بتنفيذ جولتين من الحفريات في 2018، أسفرتا عن اكتشاف قطع خزفية تعود إلى حقبة طريق الحرير، مما يؤكد عمق الروابط التاريخية والتجارية بين الحضارتين.
وتجسد التكاملية الاستراتيجية بين "مبادرة الحزام والطريق" الصينية و"رؤية 2030" السعودية نموذجاً فريداً للشراكة، حيث تلتقي الأهداف المشتركة مع آليات التنفيذ الفعّالة، لبناء تعاون شامل ومتكامل.
ثالثًا: تفاعل الشباب... حكايات ملهمة تنبض بالحيوية :
خلال العام الجاري، توليتُ مهمة إنتاج سلسلة من المشاريع الإعلامية التي تركّز على حيوية التبادل الشبابي بين الصين والسعودية. وكان أبرز هذه المشاريع جلسة حوارية بعنوان "نحو غد أفضل": حوار القيادات الشابة الصينية والسعودية، التي نظمتها قناة CGTN العربية بالتعاون مع مؤسسة مسك (Misk Foundation) ، بمشاركة ستة شباب من البلدين يمثلون مجالات متعددة.
في أجواء ودية وصادقة، ناقشوا سبل التفاعل بين مبادرة الحزام والطريق ورؤية 2030، وتبادلوا الأفكار حول الثقافات والتعاون، وأعربوا عن تطلعاتهم لمستقبل واعد للعلاقات الثنائية.
من خلال هذا الحوار المميز، لمست عن قرب مدى وعي الشباب الصيني والسعودي بالواقع التنموي في كلا البلدين، وإصرارهم الجاد على المساهمة في مسيرة البناء الوطني وتعزيز أواصر التعاون بين الصين والسعودية.
تتجلى أصوات هذا الجيل من الشباب في الفيلم الوثائقي القادم من إنتاج قناة CGTN العربية بعنوان "عابرون... خمس حكايات من شباب سعوديين في الصين"
يروي الفيلم قصص خمسة شبان سعوديين خاضوا تجارب ملهمة في الصين: رائد الأعمال الذي تحدى صعوبات التجارة الدولية، وثبت على مبادئه رغم التحديات اللوجستية، وفي المدرسة السعودية ببكين، شارك الطلاب والمعلمون معًا في تنظيم حفل تخرج دافئ، جسّد لحظة وداع مؤثرة وبداية جديدة في رحلة النضج، وصاحب الإرادة الذي رفض الاستسلام للظروف وحلق خلف أحلامه، والذي قطع مئات الكيلومترات بالقطار السريع بحثًا عن إجابة مصيرية، وسفير الثقافة الذي حول جامعته الصينية إلى جسر للتواصل بين الحضارتين.
تجسّد هذه القصص روح الشباب والطموح، وتعكس دفء التفاهم الثقافي الحقيقي بين شباب البلدين، لتكون أصدق ترجمة لمفهوم "التقارب بين القلوب" الذي يميز العلاقات الصينية السعودية.
رابعًا: حوار الحضارات... العام الثقافي الصيني السعودي ينسج أواصر التفاهم :
يشكل إطلاق أول "عام ثقافي صيني سعودي " في عام 2025 علامة فارقة في مسيرة العلاقات الثنائية، حيث تنتقل دائرة المصلحة المشتركة إلى فضاء التآخي الحضاري، وهناك سلسلة من المبادرات الثقافية البارزة التي كانت شاهدا على هذا التحول:
نظمت الرياض مهرجان عيد الربيع الصيني، وجذب عشرات الآلاف من الزوار المحليين.
• أقيم في بكين معرض "العلا: واحة العجائب" بالتعاون بين القصر الإمبراطوري والهيئة الملكية لمحافظة العلا.
شهدت حديقة معبد السماء في بكين "معرض السفر السعودي" كنافذة للترويج الثقافي.
• توسّع تعليم اللغة الصينية في المملكة، حيث أنشئت مدرستان كونفوشيوس، وافتُتحت برامج اللغة الصينية في 4 جامعات، و8 مدارس ابتدائية وثانوية.
منذ يونيو 2025، بدأت الصين في تطبيق سياسة الإعفاء من التأشيرة لمواطني السعودية وثلاث دول خليجية أخرى، مما سهل التبادل الثنائي بما في ذلك الزيارات الثقافية. بالتوازي، شهدت السياحة الصينية إلى المملكة قفزة كبيرة، حيث زار السعودية 140 ألف سائح صيني عام 2024، ما جعل الصين ثاني أكبر سوق سياحي للمملكة.
ويُعزى هذا الإنجاز إلى الجهود التي تبذلها الحكومة السعودية في تحسين أنظمة التأشيرات الإلكترونية، فضلًا عن زيادة عدد الرحلات المباشرة بين البلدين.
العام الثقافي يمثل محطة في مسار طويل الأمد لبناء جسور التواصل الإنساني، حيث يتحول التبادل الثقافي من مجرد عرض إلى إنتاج مشترك وإثراء متبادل للتراثين الصيني والسعودي، مما يعمق أواصر الصداقة والمحبة بين الشعبين.
الخاتمة: حكاية صداقة تعبر الحدود وتصل القلوب:
خمسة وثلاثون عاماً من العلاقات الدبلوماسية بين الصين والسعودية لم تكن مجرد رقم في سجل التاريخ، بل كانت رحلة تحول عميق من التعارف إلى الشراكة الاستراتيجية، من الحزام والطريق إلى رؤية 2030، ومن التبادل التجاري إلى التلاقي الحضاري. لقد نجح البلدان في نسج نموذج فريد للتعاون، يجسد ثقة متجذرة في التضامن الاستراتيجي، وإرادة صلبة لمواجهة تحديات العصر، ورؤية مشتركة لمستقبل أكثر ازدهارا.
ستواصل الصين والسعودية مسيرتهما المشتركة في عالم تتسارع فيه التحولات، ليكون تعاونهما نموذجا للاستقرار والازدهار في زمن تتفاقم فيه التحديات. وفي خضم هذا المشوار الحافل، يبرز دور الإعلام كجسر للتواصل الإنساني، حيث تقع على عاتقنا مهمة سرد حكاية العلاقة بين الشعبين بكل مصداقية وعمق، عبر كلمات تصف الواقع، وصور تنقل المشاعر، وأصوات تترجم التطلعات. لتتحول قصة الشراكة الصينية السعودية إلى نشيد شبابي نابض يصل إلى قلوب الشعوب في كل مكان.