بحث

جمهري واعرفي مطر من رأسي

عبدالوهاب قطران

من أبطال الثورة والجمهورية الذين غيّبتهم ذاكرة التاريخ الرسمي، العقيد البطل محمد صلاح النعامي، قائد سبتمبري جسور من قرية البلد – بيت نعم – بمديرية همدان. رجل منسيّ عاش للجمهورية حد العشق والهيام، وأحبها حتى فاقت في قلبه حب الأهل والولد، ومات فقيرًا عفيفًا نزيهًا، لم يخلّف لأولاده شيئًا سوى السمعة الطيبة وسيرة ناصعة.

‏على غير موعد ولا ترتيب مسبق، زارني  قبل اسابيع إلى بيتي، الصديق العزيز الشيخ الشاب عبدالله بن عبدالله عاطف المصلي، يرافقه الأخ القاضي محمد راجح العذري، حفيد قائدنا السبتمبري الثوري، ابن ابنة العقيد البطل محمد صلاح النعامي. ومع مضغ اغصان واعواد القات الظلاعي  وتعاقب الأحاديث، انسابت سيرته العطرة كما ينساب الجدول الرقراق، وأخذتنا ذكراه إلى طفولتنا، حيث كان جيل آبائنا يتناقلون قصصه ومآثره. سمعتها مرارًا وتكرارًا منذ كنت طفلًا صغيرًا على لسان والدي –رحمه الله– وعلى ألسنة كبار ضباط القوات المسلحة من أبناء قريتنا الجاهلية ومن عموم همدان.

‏كلهم كانوا يسردون بطولاته ومكارمه وبسالته ونزاهته، وكيف كان ينفخ في أرواح الناس جذوة الثورة، ويغرس فيهم الإيمان بالجمهورية. قال لي والدي إنه سمعه بأذنيه وهو يخاطب الجنود في معارك الدفاع عن الثورة:

‏بالقول "ضحوا بأرواحكم ودمائكم من أجل الجمهورية، فهي أنبل قضية وأعز وأشرف قضية نموت في سبيلها. أقسم بالله أنني أحب الجمهورية أكثر من أبي وأمي وأولادي وزوجتي. لولا الجمهورية لبقينا حفاة عراة نلبس ثياب المريكني حتى اليوم."

‏جمهري واعرفي مطر من رأسي:

‏من أشهر القصص الحقيقية  المتداولة في همدان عن بطلنا السبتمبري قصة والدته معه بعد سنوات الجدب والقحط الذي أعقب قيام الثورة. فقد عاتبته قائلة:

‏> "الجمهورية حقكم فسق ومفاجرة، بتسكروا وتعصوا الله. من يوم قامت ما عاد نزل المطر!"

‏فرد عليها ضاحكًا، متهكمًا، واثقًا بنفسه:

‏ "جمهري يا أمّاه… واعرفي مطر من رأسي."

‏فقالت له: "أنا منك صدّق."
‏قال لها: "أقول لك جمهوري يا أمّاه، واعرفي مطر من وسط رأسي هذا."

‏وفعلا جمهرت. وفي اليوم التالي انهمر المطر كأن السماء انفجرت، وسالت السيول العارمة حتى قفزت مياهها قامة رجل، وجرفت كل ما في طريقها، حتى الحوي و البقرة التي كانت في حوش أمه. فصرخت بأعلى صوتها:

‏"يا محمد، حرق قلبك! جمهرنا وجاء السيل وشل الحوي والبقرة!"

‏فضحك وقال لها مقهقهًا:

‏"زيدتي الجمهارة    يا أمّاه،  كان عتجمهري قليل قليل!"

‏توزيع مرتبات الجيش على الفقراء:

‏ومن الحكايات المشهورة أنه كُلّف ذات يوم من الرئيس أحمد الغشمي بالنزول إلى تعز لصرف مرتبات كتيبتين من القوات المسلحة قبل العيد. استلم شوالين فلوس من المالية، وحين وصل بسيارته إلى باب شعوب، كان يرى الفقراء والمساكين منتشرين على طول الطريق. فتوقف وبدأ يوزع المرتبات عليهم واحدًا واحدًا، من باب شعوب نزولًا عبر الزمر حتى وصل باب اليمن وقد فرغ الشوالان تمامًا!

‏ثم أخذ بطانيته وفرشته وذهب إلى القيادة يقابل الغشمي. فلما رآه، سأله غاضبًا: "أين المرتبات؟ لماذا عدت؟"
‏قال له محمد صلاح بكل بساطة:

‏ "صدّرني الحبس تيه بطانيتي وفرشي، فقد وزعتها على المساكين والمحتاجين من الزمر إلى باب اليمن."

‏فبهت الغشمي وقال: "أنت مجنون! لو كنت عاقلًا ما فعلت فعلتك هذه. من يوزع مرتبات الجيش على الناس في الشوارع؟"
‏فرد عليه النعامي:

‏"ولماذا قامت الثورة والجمهورية إذن؟ أليست لتعزّ الفقراء والمساكين؟ وإلا فلماذا ثرنا؟"

‏فأمر الغشمي بسجنه فترة، ثم أطلقه.

‏إطلاق النار على بيت الغشمي:

‏ويُروى أنه بعد مقتل الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وتنصيب الغشمي خلفًا له، ذهب وفد من المشايخ والقيادات لتهنئته في بيته بضلاع الغوش. وكان محمد صلاح ممتعضًا غاضبًا حزينا على الحمدي، فرفع بندقيته وأطلق النار على جدار البيت. هبت الحراسة، فلما عرفوا أنه النعامي، ارتبكوا. خرج الغشمي بنفسه، فقال له النعامي ساخرًا:

‏"هكذا يهنَّأ الرؤساء والملوك بالمدافع والرشاشات، ولو كان معي مدفع لهنّأتك به!"

‏فابتسم الغشمي ابتسامة مغضبة، وأضمرها في نفسه.

‏كرم لا يضاهى:

‏في ليلة عيد، استلم محمد صلاح مرتبه وخرج من القيادة. صادف امرأة مرملة بائسة محتاجة، شكت له ان لديها اطفال ايتام بدون عيد بدون كسوة ،فرقّ لها قلبه وسلمها مرتبه كاملًا. وعاد إلى بيته خالي اليدين، فلامته أمه وزوجته قائلتين: "أنت مجنون يا محمد! غدًا العيد ولا في البيت جعالة ولا كسوة للعيال، وقد أعطيت مرتبك كله لامرأة مرملة!"
‏فرد عليهما بابتسامته الواثقة:

‏"لا تقلقين، ما بيقطع الله حد."

‏وفي يوم العيد لبس بندقه و اعترض الرئيس  الغشمي متنكرًا في طريق شبام، ونصب وسط الطريق برميل في الطريق. فلما عرفه الغشمي ضحك، وقال له: "ما بالك يا محمد، قدك قاطع طريق؟"

‏قال له: "أنتم شابعون معيدون متضيفون، ونحن بلا عيد ولا مصروف. حوّل لنا مصروف العيد!"

‏فأجابه الغشمي: "ما عندي ورقة."
‏قال له محمد صلاح: "خط بيدك هنا وسط يدي و، توقيعك معروف، أنت الرئيس."
‏ضحك الغشمي: وقال له "ما ينفع."
‏فأخرج النعامي ورقة من باكت الشقارة وقال: "حوّل هنا بورقة الشقارة." فكتب له الغشمي حوالة على ورقة باكت الشقارة، وصرفها من أمين الصندوق الذي قال له: "أين الختم؟"
‏قال: "الختم ما يلزم، الجيد معروف بشملته. اصرف."
‏فصرفها له وروح يعيد!

‏مواجهة الفساد:

‏ذات يوم شكا له مقاوته بباب السباح أن ضابطًا برتبة نقيب –مدير قسم جمال جميل– يبتزهم يوميًا بالميري، وينهبهم بوقاحة. فذهب محمد صلاح بنفسه، وجلس يراقب. فلما رآه يبتز الناس، تقدم وانتزع القات من يده وصفعه ملطامًا، وانتزع رتبته من على كتفه. وقال له:

‏ "الدولة لا تنهب المواطنين، بل تعطيهم. أنت فاسد لص مرتشي. ستُجرد من رتبتك وتُسجن."

‏ثم أخذ الرتب وذهب للقيادة وسلّمها للغشمي قائلًا: "جرّده وأدخله السجن الحربي ليكون عبرة لغيره." فتم ذلك فعلًا.

‏قلب الجمعة سبتًا:

‏ومن الطرائف الشهيرة بعد ثورة سبتمبر أن فقيه قرية بيت نعم صعد ذات يوم يسبّح لصلاة الجمعة، فهتف به محمد صلاح: "اليوم سبت مش جمعة!"
‏رفض الفقيه ونزل، فأطلق النعامي طلقة في الهواء وقال: "قلنا لك سبت، انزل قبلما أنزلك على وجهك!" فنزل الفقيه، وألغيت الجمعة وتحولت إلى سبت!

‏من همدان ولو بغير رأس:

‏ذات يوم واثناء اجراءات قبول الطلاب بالكلية الحربية ،وجد طالب يبكي حزين مكتئب فقير خرج للتو من مقابلة هيئة القبول ،فسئله مالك ياابني ،فقال رفضوا يقبلوني بالكلية قالوا برأسي قضع !!

‏فقال له من اين انت فقال له من همدان ،فرد عليه تعال بعدي فدخل على الهيئة وسئلهم لماذا لم تقبلوا هذا الطالب المسكين فقالوا برأسه قضع ..

‏فرد عليهم من همدان ولو بغير رأس اقبلوه من الجنان ،فقبلوه فعلا..

‏النهاية المأساوية:

‏أما خاتمته فكانت حزينة. فقد مات مسمومًا كما يؤكد حفيده. وأثناء إسعافه من همدان إلى صنعاء، كان يبكي ويقول: "رجعوني… انتهيت." تعجب رفاقه، كيف يبكي هذا الأسد الذي لم يعرف الخوف يومًا؟ فقال لهم وهو يختنق:

‏ "الملف عطل."

‏بكى وهو يحتضر، ليس جزعًا من الموت، بل رهبة من لقاء الله، وحرقة على ملف حياته الذي لم يكتمل، ووطنٍ لم يتحقق.

‏رحم الله العقيد البطل محمد صلاح النعامي، رجلًا عاش نزيهًا جسورًا، ومات فقيرًا عفيفًا، تاركًا لأمته إرثًا من البطولات والطرائف والمواقف الخالدة، محفورة في ذاكرة همدان كما في وجدان كل جمهوري سبتمبري أصيل.

آخر الأخبار