على مدى عقود طويلة، ظل اليمنيون يرددون المثل الشعبي: «شبر مع الدولة ولا ذراع مع القبيلي»، باعتباره تعبيراً عن الإيمان بسلطة الدولة ومؤسساتها، وضرورة أن تكون المرجعية العليا التي تحكم العلاقة بين الناس وتحقق العدالة وتحمي الحقوق، كان هذا المثل يعكس قناعة راسخة لدى الأجيال المتعاقبة بأن الدولة، مهما ضعفت، تظل أفضل من الفوضى ومنطق القبيلة.
لكن انقلاب مليشيا الحوثي عام 2014 غيّر المعادلة رأساً على عقب، فمع استيلاء المليشيا على مؤسسات الدولة في صنعاء ونهبها موارد البلاد وحرمان الموظفين من مرتباتهم، فقد اليمنيون ثقتهم بالمؤسسات، واضطر كثير منهم إلى البحث عن حماية «القبيلي» لضمان أبسط مقومات العيش والأمان، ومنذ ذلك الوقت أصبح اليمن يعيش مفارقة مريرة: غياب الدولة ومؤسساتها في المناطق المحتلة من الحوثي من جهة، وسطوة المليشيا وسلاحها من جهة أخرى.
ما حدث أخيراً في العاصمة المؤقتة عدن مع الزميل الصحفي ورئيس تحرير صحيفة عدن الغد، يعكس العلاقة بين الدولة والإعلام، صحيح أن الحادثة انتهت سريعاً بالإفراج عنه بعد ساعة واحدة، لكن مجرد اعتقال صحفي في منطقة محررة يطرح أسئلة مقلقة: لماذا لا تزال بعض الأطراف تتعامل مع الإعلام بعقلية الإقصاء والتخويف؟ ولماذا لا تبنى جسور ثقة وشراكة حقيقية مع الصحافة باعتبارها ركيزة لأي دولة مدنية حديثة؟
في المقابل، تكشف هذه الحادثة أيضاً عن قوة الإعلام، فانتفاضة الزملاء واحتجاجاتهم أجبرت السلطات على التراجع سريعاً، هنا ندرك أن القلم يظل أقوى من أي سلاح، وأن الصحافة حين تتكاتف تستطيع أن تفرض احترامها حتى على السلطات.
إذا كان ما حدث في عدن يمثل تجاوزاً عابراً يمكن معالجته، فإن ما يحدث في مناطق سيطرة الحوثي يمثل مأساة حقيقية لا تنتهي، فالمليشيا جعلت من الصحافة عدواً أول، ومن الصحفيين هدفاً دائماً.
في صنعاء، الزميل وليد الصوفي يقبع في غياهب السجون منذ أكثر من عشر سنوات، دون محاكمة أو حتى معرفة مكان احتجازه بدقة، والزميل محمد المياحي تجاوز العام داخل السجون الحوثية، بينما لا يزال الزميلان أوراس وماجد زيد مخفيين قسراً منذ أكثر من أسبوعين، هؤلاء ليسوا مجرد أسماء، بل قصص مؤلمة لعائلات تبحث عن أبنائها وتعيش على أمل سماع خبر عنهم.
الحوثي يدرك أن الصحافة أخطر عليه من أي معركة عسكرية، لأنها تكشف جرائمه وتفضح ممارساته أمام العالم، لذلك لجأ إلى سياسة ممنهجة تقوم على تكميم الأفواه، وإرهاب الصحفيين، وتحويل صنعاء إلى «مقبرة للحريات
الفارق بين ما حدث في عدن وما يحدث في صنعاء كبير وواضح، ففي عدن، تم الإفراج عن الصحفي بعد ساعة، وهو ما يؤكد وجود حد أدنى من الحرية والقدرة على الاحتجاج والضغط، بينما في صنعاء، لا أحد يستطيع أن يسأل عن مصير صحفي مخفي منذ سنوات، هذا التباين يكشف أن الصحافة في المناطق المحررة، رغم كل العوائق والانتهاكات، لا تزال قادرة على التنفس، أما في مناطق الحوثي فالوضع يقترب من الموت الكامل.
إن الدولة، في المناطق المحررة، مطالبة اليوم بأكثر من مجرد الدفاع عن الصحفيين عند حدوث تجاوز، المطلوب هو بناء علاقة استراتيجية مع الإعلام تقوم على الشراكة لا الخصومة، وعلى الثقة لا التوجس، فالإعلام ليس عدواً، بل حليفاً في معركة استعادة الدولة ومواجهة المشروع الحوثي العنصري الإرهابي.
كما أن المجتمع، بما فيه المنظمات الحقوقية والناشطون، يجب أن يضاعف جهوده في الدفاع عن الصحفيين المعتقلين والمخفيين قسراً في سجون الحوثي، فالقضية ليست مجرد حرية رأي، بل قضية إنسانية ووطنية ترتبط بحق اليمنيين جميعاً في الحصول على المعلومة، وحقهم في أن يعيشوا في بلد يحترم الكلمة الحرة.
اليمن اليوم أحوج ما يكون إلى إعادة الاعتبار للمثل الذي تربّت عليه أجيالنا: «شبر مع الدولة ولا ذراع مع القبيلي»، وينبغي أن تُعزَّز سلطة الدولة على كل شبر محرر، مع بناء الثقة بينها وبين الشعب، ولن تُبنى هذه الثقة ما لم تُشَيَّد جسور متينة مع الإعلام، الذي يمثل الرابط الحيوي بين الحكومة والمجتمع، وهو العين الحقيقية للسلطة لمعرفة الأخطاء وتصويبها.