من الثورة إلى الخديعة : كيف التهمت الإمامة جسد الجمهورية؟
الناقد نت - خاص المحرر السياسي
منذ فجر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، حلم اليمنيون بولادة فجرٍ جديد يحررهم من عصور الكهنوت والعبودية، ويقيم دولة المساواة والمواطنة. غير أن ما لم يدركوه آنذاك هو أن الإمامة لم تُهزم في الجبال، بل انسحبت إلى الظل لتعيد تنظيم صفوفها، وتُطلّ بوجهٍ جديد من داخل أسوار الجمهورية ذاتها.
لقد سقطت الإمامة في الميدان، لكنها تسللت في صمت إلى القصر.
حين أطاح الثوار بنظام حميد الدين عام 1962، أدرك الهاشميون أن المواجهة المباشرة مع الوعي الثوري خاسرة، فاختاروا طريقًا آخر أكثر مكرًا: اختراق البنية الاجتماعية والسياسية للجمهورية.
بدأوا بالمصاهرة مع رموز القبائل ورجالات الثورة، فكان زواج عبدالله بن حسين الأحمر من أسرة المتوكل ومصاهره الكحلاني لعلي عبدالله صالح عفاش الحميري خطوة محسوبة لإعادة وصل الحبل المقطوع بين الإمامة القديمة ورموز السلطة الجديدة.
هكذا تحولت الجمهورية إلى قشرة تخفي في داخلها بذور النظام الإمامي الذي أُسقط ظاهرياً لكنه بقي حياً في مفاصل السلطة
في العقود التالية، لم تعد الإمامة بحاجة إلى السيف، فقد امتلكت القلم والقرار والوظيفة والمنبر.
تغلغل الهاشميون في مؤسسات الدولة حتى صاروا هم الدولة نفسها، واحتكروا المناصب الحساسة والبعثات الدراسية والفرص الاقتصادية.
وما كان المواطن اليمني إلا متفرجاً على جمهوريتهم الخاصة، يكدح في الخارج ليرسل الحوالة إلى الداخل، بينما القرار والامتيازات بيد من يدّعون “الحق الإلهي”.
حين أزال أحمد الكحلاني “دبابة مارد الثورة” من ميدان التحرير، لم يكن ذلك فعلاً عمرانياً عابراً، بل كان إعلاناً رمزياً لدفن الثورة في قلب العاصمة، وكأن فوهة المدفع التي كانت موجهة نحو دار البشائر أُسكتت لتعود الإمامة إلى عرشها، لكن بثوب جمهوري فخم وراية وطنية براقة.
كانت أخطر مراحل الانقلاب الصامت حين تحوّل بعض أبناء الثورة إلى أدوات في يد أعدائها.
تزاوج المال القبلي مع الفكر الإمامي فأنجب نظاماً هجيناً، لا هو جمهوري ولا إمامي، لكنه سمح للمشروع السلالي بالعودة تحت غطاء الدولة.
فمن حزب الإصلاح إلى المؤتمر، ومن المنظمات المدنية إلى المؤسسات الأمنية، ظلّ الهاشميون يمسكون بالخيوط كلها، يحرّكون اللعبة السياسية من وراء الستار، فيما الشعب يعيش أوهام “الجمهورية”، وهي في الحقيقة مجرد ديكورٍ يغطي عمارةً متهالكة تسكنها أرواح الأئمة.
لماذا انقلب الهاشميون وهم يملكون كل شيء ؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي يكشف عمق الصراع.
الهاشميون لم ينقلبوا على الدولة لأنهم فقدوا السلطة أو الامتيازات، بل لأن الجمهورية بدأت تقتل “القداسة” التي كانت تمنحهم السيادة.
فاليمني الذي تعلم وقرأ ووعى، لم يعد يركع تحت قدم “السيد”، ولم يعد يؤمن بأن هناك من وُلد ليحكم وآخر خُلق ليُطيع.
بدأت ثقافة المساواة تنتشر، وبدأ “العبد اليمني” القديم يتحول إلى “مواطن حرّ”، وهذا ما اعتبره المشروع الهاشمي خطراً وجودياً يهدد بقاءه.
لقد أدركوا أن التعليم أخطر من المدفع، وأن الوعي أفتك من الرصاصة، وأن سقوط “ثقافة السيد” يعني نهاية المشروع الإمامي إلى الأبد.
ومن هنا كان قرارهم: إسقاط الدولة لإعادة صناعة الخوف، وتدمير الوعي اليمني الذي تحرر بعد سبتمبر.
حين دخل الحوثيون صنعاء في 21 سبتمبر 2014، لم يكن ذلك انقلاباً على سلطة هشّة، بل إعلاناً رسمياً عن استعادة الإمامة الكاملة بعد نصف قرن من التغلغل.
ذلك اليوم لم يكن بداية النهاية
لقد كان السقوط الحقيقي يوم تحوّل “الثوار” إلى حراسٍ لبوابة الإمامة، ويوم صمت المثقف عن عنصرية السلالة، ويوم تحولت “الجمهورية” إلى اسم بلا مضمون.
ما فعله الحوثي في 2014 هو فقط رفع الغطاء وكشف المستور، معلناً للعالم أن الجمهورية اليمنية كانت “جثة محفوظة في ثلاجة السلطة”، ينتظر ورثة الإمامة لحظة إخراجها وإعادة دفنها رسمياً.
اليوم، وبعد عقدٍ من سقوط صنعاء، لم يعد الصراع بين جمهوريين وهاشميين فحسب، بل بين وعيٍ يريد أن يصنع الدولة، وجهلٍ يريد أن يعيدها إلى العصور المظلمة.
فالثورة لم تُهزم لأنها فقدت جيشها، بل لأنها فقدت وعيها الجمعي، ولأن بعض أبنائها صدّقوا أن الجمهورية يمكن أن تتعايش مع الكهنوت.
لكن ما لا يدركه المشروع الإمامي أن الشعوب لا تُهزم إلى الأبد، وأن الفكرة التي وُلدت في 26 سبتمبر ما زالت حية في صدور الأحرار، تنتظر لحظة جديدة تكتب فيها اليمن شهادة ميلاد جمهوريتها الثانية — جمهورية الوعي، لا جمهورية الشعارات.
أخيراً
إن 21 سبتمبر لم يكن انقلاباً على سلطة هشّة، بل كان التكشف النهائي لانقلابٍ طويل بدأ منذ أول تسوية مع بقايا الإمامة.
سقطت الجمهورية يوم قَبِل الثائر بمصاهرة الإمام، ويوم صمت المثقف عن تمييز السلالة، ويوم قبل اليمني أن يُحكم باسم الدين والنسب.
أما استعادتها، فلن تكون بقرارٍ عسكري ولا بتحالفٍ سياسي، بل بثورة فكرية تعيد تعريف “المواطنة” في الوجدان اليمني، وتغلق إلى الأبد باب الكهنوت الذي تسرّب منه المشروع الهاشمي تحت اسم الجمهورية.
فما سقط في 21 سبتمبر هو القناع، أما الجمهورية فقد أُسقطت منذ أن رفع الإمامي رأسه داخلها وقال:
"أنا سيد وأنتم عبيد"...
ومن يومها لم تعد الجمهورية جمهورية.